التواصل الحضري التاريخي المعماري
الصناعات التقليدية
العمارة السكنية والفضاءات الثقافية
تعايش ديني حضري تاريخي
المتاحف وصفاقس والبحر‎
اكتشف

صناعة الغربال

هناك من الحرف المجهولة التي أهمل التاريخ تضمينها في حولياته ودفاتره، لكن ذاكرة الأماكن لم يعف منها رسمٌ موشوم في أزقة المدن العتيقة، فاخترقت شذرات منها عتمة التاريخ. ففي بعض المصادر، نطالع صدى لوجود الغربال بمصر القديمة وعند اليونان ولاحقا لدى الرومان، أما عن بلادنا، موطن النوميديين واللوبيين، فلا كلام عنه. يبدو أن صناعة الغرابل والحرف المتصلة بها عصية عن الزمن وتقلباته. كانت دكاكين الغرابلية في مدينة صفاقس العتيقة تطل على نهج الصباغين الذي ينطلق من باب الجبلي وينتهي عند مدخل سوق الربع الجوفي، وقد تجاوز نشاطهم يوما ذلك المجال واكتسح سوق الطعمة بعد انحسار حرفة النساجة التقليدية، إلى أن تراجع بدوره ولم يعد يقتصر سوى على عدد ضئيل من الحرفيين.

صناعة الغربال

هناك من الحرف المجهولة التي أهمل التاريخ تضمينها في حولياته ودفاتره، لكن ذاكرة الأماكن لم يعف منها رسمٌ موشوم في أزقة المدن العتيقة، فاخترقت شذرات منها عتمة التاريخ. ففي بعض المصادر، نطالع صدى لوجود الغربال بمصر القديمة وعند اليونان ولاحقا لدى الرومان، أما عن بلادنا، موطن النوميديين واللوبيين، فلا كلام عنه. يبدو أن صناعة الغرابل والحرف المتصلة بها عصية عن الزمن وتقلباته. كانت دكاكين الغرابلية في مدينة صفاقس العتيقة تطل على نهج الصباغين الذي ينطلق من باب الجبلي وينتهي عند مدخل سوق الربع الجوفي، وقد تجاوز نشاطهم يوما ذلك المجال واكتسح سوق الطعمة بعد انحسار حرفة النساجة التقليدية، إلى أن تراجع بدوره ولم يعد يقتصر سوى على عدد ضئيل من الحرفيين. تعتبر صناعة الغربال من أبرز الحرف التقليدية التي اشتهرت بها مدينة صفاقس العتيقة، حيث اختص عدد من الحرفيين في هذه المهنة وتوارثوها عبر الأجيال منذ القدم. وقد كان لازدهار حرفة الغرابلي صدى كبير، تمثل بالأساس في رواج بضاعتهم بكامل أرجاء البلاد التونسية من غرابل ودلاء ودفوف ومنادف الصوف (قرداش) وغيرها. كان نشاط الغرابلية يمتد على أغلب فصول السنة، حيث يتم الاستعداد مسبقا لموسم الحصاد خلال فصل الصيف، ولموسم جني الزيتون ما بين الخريف والشتاء، وكذلك لإعداد المواد الغذائية السنوية وخزنها (العولة) في فصل الخريف أو أول أيام الشتاء. أما في فصل الربيع، فيصنع الحرفيون منتجات أخرى على غرار الدرابك والدفوف (بندير) والطبول والدلاء. الغربال هو مصفاة يُنخل بها الطحين، ويتكون من إطار مستدير الشكل (طارة)، يشد شبكة ذات زرود تتسع أو تضيق (رقعة)، تمكن من تنقية المادة المغربلة، والرقعة هي عبارة عن نسيج من سيور رقيقة من جلد الضأن أو الجدي، أو من أمعاء البقر بعد معالجتها وإعدادها. وتمثل صناعة الغربال عملا مضن وشاقا، إذ تتطلب تحصيل معارف عمل متشعبة، تتداخل فيها عدة تقنيات ومهارات. كانت أطر الغربال تُعد في تونس العاصمة من خشب البلوط (لوح بلنز) ويجلبها حرفيو صفاقس في شكل ألواح يضمون أطرافها بالمسامير، ويبلغ قطر الطارة 40 سنتمترا تقريبا وارتفاعها حوالي 10 سنتمترات وسمكها خمسا من المليمترات. يشرع الحرفي في ثقبها على ركبتيه، مستعينا بمثقب يدوي يتكون من قوس ومشعب، بحيث يفصل بين الثقب والآخر سنتمتر واحد ونصف، ثم يمرر من تلك الثقوب خيوط سداة الشبكة (الرقعة). ويتم نسج الشبكة من خيوط حيوانية حيث يقطّع الحرفي جلد الضأن أو الجدي سيورا رقيقة، ثم يفتلها بواسطة دولاب غزل (ردانة) ويشرع في إعداد السداة (السدوة). بعدها، يفصل تلك السدوة إلى طبقتين بواسطة عودين حديديين: النيرة والسويفة لكي يمرر خيوط اللحمة بين الطبقتين، مستعينا بنزق دقيق يسمى سهما، مع حرصه على أن تكون السردات أي العيون بين خيوط القيام وخيوط اللحمة منتظمة الأبعاد، وإن اقتضى الأمر، يسويها بواسطة إبرة خاصة، وتتطلب هذه العملية كثيرا من المهارة والصبر. في النهاية، يتولى الحرفي خياطة شريطين من الجلد، عرض الواحد 3 سنتمترات، من داخل الغربال وخارجه قصد تغطية انفراج الخيوط وتمتين الرقعة. في يومنا هذا، صارت الرقعة تقد من أسلاك حديدية أو مصنوعة من مادة النايلون عوضا عن الخيوط الحيوانية الطبيعية. يمكن تصنيف الغرابيل حسب حجم عيون رقعها، إلى خمسة أصناف رئيسة بصفة تنازلية: 1- غربال سقّاط ويسمى أيضا غربال زيتون ويستعمل في ضبط أحجام حبات المحمص. 2- غربال شعير أو غربال قمح: يستعمل بعد طحن الحبوب لفصل النخالة عن الطحين. 3- غربال تشيش: يصلح لضبط حجم حبات دشيش الشعير. 4- غربال سميد: يعتمد لغربلة السميد وضبط أحجام حبات الكسكسي. 5- غربال مالطي: رقعة هذا الغربال دقيقة السردات، تصنع من سبيب الخيل وتجلب من جزيرة مالطة كما يدل على ذلك اسم الغربال نفسه، ويستعمل لغربلة الدقيق (تقيق). في بلاد الكسكسي، تلك الأكلة الأمازيغية العريقة، لا يمكن الاستغناء عن الغربال لأنه يمثل أداة مركزية في مختلف مراحل إعداد حباته، ولئن حافظت بعض العائلات التونسية على عادة تحضير مدخراتها السنوية منه، فإن أغلبها أصبحت تقتنيه جاهزا ومعلبا. لذلك انحسرت صناعة الغربال وهي اليوم في طريق الاندثار.

اقرأ المزيد