التواصل الحضري التاريخي المعماري
الصناعات التقليدية
العمارة السكنية والفضاءات الثقافية
تعايش ديني حضري تاريخي
المتاحف وصفاقس والبحر‎
اكتشف

مدينة صفاقس والتواصل التاريخي والحضري

أرض ازدانت ببياض زهر اللوز وخضاب شجر الزيتون، أرض فاحت بأريج الفل وعطر ياسمين البساتين. تلك هي صفاقس بنواها الحضرية التاريخية وبساتين جنانها، واصلة الساحل بالجنوب، منفتحة على المتوسط، مترامية بين البحر والسباسب، ناثرة أرخبيلها الحالم، وباسطة راحة يديها لأعماق ظهيرها، مكتنفة ألغاز تاريخها.

مدينة صفاقس والتواصل التاريخي والحضري

أرض ازدانت ببياض زهر اللوز وخضاب شجر الزيتون، أرض فاحت بأريج الفل وعطر ياسمين البساتين. تلك هي صفاقس بنواها الحضرية التاريخية وبساتين جنانها، واصلة الساحل بالجنوب، منفتحة على المتوسط، مترامية بين البحر والسباسب، ناثرة أرخبيلها الحالم، وباسطة راحة يديها لأعماق ظهيرها، مكتنفة ألغاز تاريخها. يبدو من خلال استقراء المصادر التاريخية، أن مدينة صفاقس سابقة لتأسيسها (هكذا!)، فقد كانت في مبتدئها تجمعا سكنيا أمزيغيا - يتكون من صيادين ومزارعين وتجار - مطلا على البحر المتوسط من أعلى ربوة تسمى حسب الذاكرة الشعبية جبل النور. وفي القرن الثالث الهجري، لما استقر الوضع لأمراء بني الأغلب المعروفين بكلفهم بالبناء والإنشاء، قرر الأمير أحمد بن الأغلب إيفاد عامله علي بن سالم أو أسلم البكري لبناء مسجد، هو الجامع الكبير، وأسوار تحيط بذلك التجمع السكني، تماما مثلما كان البربر المصامدة "... يحتزمون في أوساطهم بمآزر صوف ويسمونها سفاقس"، هكذا كتب أبو عبد الله محمد الإدريسي في نزهة المشتاق(القرن السادس الهجري)، ومن ذلك جاءت تسمية المدينة حسب المرجح. مدينة صفاقس الوسيطة مدينة محروسة بأسوارها وبسلسلة الربط والمنشآت الدفاعية التي شُيدت في عهود مختلفة على السواحل أو غير بعيد عنها، مثل برج يونـﭬـة ومحرس علي وبرج ﭬـزل وقصر زياد وقصر تنيور وغيرها، وقد جهزها الأغالبة بمنشآت مائية (فساقي) لضمان سقاية أهاليها في أرض كان يطلق عليها اسم ﭬـرعة العطش. مدينة صفاقس ذات الجذور الأمازيغية والتأسيس العربي الإسلامي، حاضرة ذات أطراف مترامية، لم تنشأ في أرض خالية من الحياة، إذ بات من المؤكد أن التوطّن البشري بالمنطقة قديم قِدم معالمها التاريخية ومواقعها الأثرية المتناثرة التي لم يعفُ رسمها، مجسمة الأطوار التاريخية التي مرت بها هذه الأرض المعطاء، ومؤسسة لهويتها وخصوصيتها المحلية. شبكة أنهج منتظمة حسب ترتيب تفاضلي، تفضي فيها الجادة إلى النهج ومنه إلى الباحة أو إلى الزقاق النافذ أو غير النافذ، ذلك ما يوحي بتنظيم دقيق للنسيج الحضري بمدينة صفاقس العتيقة. جاء هذا النسيج على نحو مركزي، إذ ينطلق من مركز المدينة الجغرافي الذي يجـسّـمه المسجد الجامع، وتلك خاصية تنفرد بها صفاقس عن باقي المدن التونسية، فيرسم أهم الأنهج في شكل تربيعي حتى الوصول إلى بابي المدينة الأصليين، الباب الجبلي وباب الديوان، مما يحدد المجالات الاقتصادية من أسواق وقيصريات منظمة بصفة تفاضلية بحكم قربها من المسجد الجامع أو ابتعادها عنه، ويخط المجالات السكنية التي تستقرّ وراء المسجد الجامع والمجال الاقتصادي. يذكرنا التخطيط الحضري لمدينة صفاقس العتيقة بتخطيط مدينة الكوفة بالعراق وهي أول مدينة عربية إسلامية أنشئت من عدم تقريبا، كما يذكرنا أيضا بالمدن الإغريقية ووريثاتها الرومانية القديمة، حيث يتقاطع شارعان محوريان، الكاردو والديكومنوس في مستوى مركز المدينة الذي يحتله الميدان العام (فوروم)، وقبلهما، نلاقي التخطيط نفسه تقريبا في مدينة كركوان البونية الموجودة بالوطن القبلي بتونس والتي يرجع تأسيسها إلى القرن السادس قبل الميلاد. في هذا الخضم، تبدو الأنهج بالمدينة العتيقة كالشرايين في الجسم، تسري فيها حشود المارة كدبيب النمل وتنبض حياة ونشاطا. بها تنتصب الأسواق العامرة، وفيها تتم المزادات العلنية وتبرم الصفقات والعقود، فهي تفيض ازدحاما وحركة دائبة دائمة. هي صورة مضمرة لعمران ثابت، عناصره متجانسة ومتماسكة، ولعمارة أنيقة في بساطتها حيث يتحد فيها البعد الوظائفي والبعد الجمالي في توليفة بديعة، وكأن المدينة ركح محكم التوضيب، يلتقي فوقه من خلف الديكورات وحركات الممثلين وتنقلاتهم نسق اجتماعي ثقافي بنسق مجالي عمراني. يذكر المؤرخون أنه انطلاقا من النصف الثاني من القرن الثامن عشر، لما ضاقت مدينة صفاقس بسكانها وازدحمت بأنشطتها الاقتصادية داخل أسوارها، تم إنشاء الربط القبلي لكي يستوعب التزايد السكاني ويوفر مجالا رحبا للمعاملات الاقتصادية، وسرعان ما تحول إلى حي إفرنجي استقبل سكانا يهودا محليين وآخرين وافدين من إيطاليين ومالطيين وفرنسيين تعويضا للسكان المسلمين الذين هجروه والتحقوا في معظمهم بجنان الضواحي. سيمثل هذا الحي النواة العمرانية للمدينة الأوروبية التي ستبرز في عهد الحماية والتي سماها المحليون باب بحر. في سنة 1943، تم دك ذلك الحي من طرف طيران الحلفاء أثناء الحرب العالمية الثانية، وبعد بضعة سنين، عُوّض بحي تجاري جديد (المائة متر حاليا). إذا أمعنا النظر في المد العمراني التاريخي لمدينة صفاقس، سنلاحظ علاقة الانسجام والتواصل التي تربط ما بين المدينة الوسيطة ومدينة القرن العشرين، سواء فيما يتعلق بالنسيج الحضري أو فيما يخص الأساليب المعمارية المستلهمة من الموروث بعد إعادة قراءته. فرغم وجود الأسوار التي كانت تحميها دون عزلها، إن المدينة العتيقة والمدينة الأوروبية بحيها التجاري الجديد الذي حل محل الربط القبلي، والتي احتلت الأراضي التي تم استصلاحها على حساب البحر، يؤلفان كيانا عمرانيا متجانس العناصر، محكم الهيكلة وذا صبغة تواترية. ما يجسم هذا الامتداد هو ذلك المحور الذي يتجه جنوبا وشمالا والذي تخترق فيه الأنهج الكيانين العمرانيين في خط مستقيم، وما يؤكد هذا التواصل الإرادي دون شك، الموقع الخطي المستقيم لعدد من المآذن والصومعات، والذي ينطلق من صومعة قصر البلدية بالحي الأوروبي وينتهي بمئذنة جامع سيدي بوشويشة داخل الأسوار وجامع سيدي اللخمي جوفها. يلتقي مع هذا المحور داخل الأسوار وفي مستوى الجامع الأعظم رمز السلطة الدينية والسياسية والاجتماعية، محور شرق-غرب، متعامد معه. في "باب بحر"، وعند تقاطع الجادتين الرئيسيتين (شارع الحبيب بورڤيبة وشارع الهادي شاكر اليوم)، تم تشييد قصر البلدية ومقر مصرف "القرض الفلاحي" ومبنى المسرح البلدي، والكل يرمز إلى السلطة المحلية والنفوذ الاقتصادي والهيمنة الثقافية. دون شك، إن في ذلك لنقلا للنموذج الحضري المديني. لقد جعل باب البحر مدينة صفاقس تعاود التوجه نحو البحر في علاقة جدلية بين الانفتاح والانغلاق، وهي التي تصدت لكل معتد قادم من البحر مثل نورمان صقلية وفرسان مالطة، وأسطول المستعمر، وفي الوقت نفسه، أرست علاقات تبادل تجاري عبر البحر مع بلدان المشرق، خاصة خلال القرن الثامن عشر، ولقد أسهمت تلك العلاقات في تكوين ثروتها وأدخلت عليها حركية اقتصادية غير مسبوقة. يبدو جليا أن الحي الأوروبي الجديد لم ينفصل عن مرجعية النموذج المحلي، بل ارتكز على تقاليد عمرانية تمت إعادة قراءتها من خلال منظور عصري، سيطبع الأنماط المعمارية داخله، من خلال انصهار الأساليب والطرز المعمارية في حوار بين الخصوصيات المحلية والتعبيرات الوافدة. من الجهة الشمالية، لم تمنع الأسوار من انفتاح المدينة على ضواحيها وظهيرها، بل امتد العمران في مرحلة أولى، ربما بداية من أواخر القرن السابع عشر، إلى ظهيرها القريب عبر عدد من الجادات (ثنية) المشعة انطلاقا من باب الجبلي. هناك تم استغلال نسيج شبه حضري من الأزقة (زنقة) بتفرعاتها من الفلول والفلّة ما انفصل عن الأصل، وقد خُط طبقا لمسح عقاري قديم. تؤدي تلك الأزقة والفلول إلى بساتين تسمى جنانا، تحيط بها من الجهات الأربع طواب رملية مغروسة تينا شوكيا (هندي باللهجة المحلية)، أشجارا مثمرة، واحتوت مساكن ضحوية. عندما ينفض الربيع بتلات الأزهار وتنضج حبات اللوز ويبدّر التوت والمشمش، وعندما يطل فصل الصيف وتحمرّ أشعة الشمس ويبلغ قيظها عمق الدور والخدور، كان معظم سكان المدينة يؤمون جنانهم ليستمتعوا بهوائها الطلق ونسمات الليل الندية وأريج زهر الفل والياسمين ولذة التين مقطوفا من "أمه" صباحا. وحين ينزع الخريف الأشجار أوراقها وتنزل غسالة النوادر، وبعد أن تنهي النساء إعداد المؤونة (العولة) من الكسكسي والمحمّص ودشيش الشعير، يطفق سكان الجنان راجعين إلى دفء المدينة وضوضائها، تلك هي رحلة الشتاء والصيف التي كانت تنظم حياتهم.

اقرأ المزيد